مــــــــذاقـــ العــــــودة

متجاوب 2023

منوعات

عضو vb
إنضم
24 يونيو 2010
المشاركات
13,521
مستوى التفاعل
431
النقاط
83
الإقامة
في قلب حبيبي


fass.gif


أتى به ابوه من المغرب في أوائل الأربعينات ليلقيه على قارعة الطريق بعدما عجز عن توفير اللقمة له

و لإخوته هو لم ينسى انه أتى على ظهر عربة يجرها بعلان هرمان احدهما له جرح غائر في أذنه اليسرى

و رغم كركبة العربة فان طنين الذباب المتآكل على الجرح كان يسمع على بعد أمتار . كانت الشمس قد شمرت

و استعدت لتهوي وراء الأفق ، حينما توقفت العربة ذهب إليه أبوه و امسكه من تحت ذراعيه نزل من العربة مشى به

خطوات و تركه ثم مضى إلى العربة، لم يقل له كلمة لم يعانقه لم تدمع عيناه تركه و فقط كما نترك بضاعة أعيانا ثقلها.

كانت العربة تبتعد و هو لا يريد مغادرتها بعينيه، سذاجة الطفل كانت تحدثه أن أبوه سيعود و يعانقه

و انه سيرى إخوته مرة أخرى... بقي في هاته الحالة مشدودا بعينه الصغيرتين إلى العربة

حتى صارت نقطة صغيرة في الأفق و لم يعد يسمع كركبتها.

لما وخزه الجوع كانت الشمس قد استقرت وراء الأفق و ارتفع ثغاء الأغنام العائدة إلى زرائبها ،صوت الأغنام

ذكره بموطنه في "جرادة " فسالت دموع ألهبت حده الأسمر . سار حلف هذا الراعي المتثاقل و الذي

سبقته أغنامه بعدة أمتار، انتبه الراعي لما رأى احد كلابه يعود مسرعا و يدور حول شبح مصدرا نباحا و هريرا ،

تراءت له ملامح طفل سار نحوه و عصاه تسبقه و لم يكد يسأله حتى أجهش الصبي بالبكاء، سأله مبارك

من أنت فلم يكن جواب الطفل سوى كلمات غير متجانسة يتخللها نحيب عرف الرجل من لهجته انه غريب

عن هاته الديار . أمسكه من يده و سار به إلى بيت الطوب الواقف على تلك الربوة المضطجعة بمحاذاة طريق

النصارى.

عمي إدريس يتذكر رائحة الطين الطازج التي كانت تعم الغرفة المظلمة و التي لم يستطع هذا المصباح الصغير

إنارة سوى زاوية منها ،و في العتمة كان هناك أشباح ثلاث، مرآة و بنتين . المرأة كانت تحضر الأكل

و البنتين كانتا تقومان بحركات غريبة و تضحكان على ضلهما العملاق المرسوم على الحائط المطلي حديثا بالطين،

دخل مبارك ممسكا بيد الصبي أجلسه في ركن و اقترب من زوجته ليتبادلا حديثا علم الصبي انه يخصه.

اجتمع الخمسة حول قصعة عريضة مملوءة بالحليب تسبح فيه حبيبات الكسكسى و بضع حبات فول اخضر ،

كان إدريس يسرع في الأكل و البنتين تنظران إليه و تضحكان و الأم تنهرهما من حين لآخر .

أما مبارك فلم يأكل كثيرا كان باله مشغولا بهذا الصبي الذي لا يعرف له أهلا و ما عساه أن يفعل

به ثم استقر رأيه على تبنيه لحين ظهور من يسأل عنه.

دخل مبارك يتبعه الطفل إلى غرفة عريضة يتخذها مخزنا للحبوب ، المحراث الخشبي ،

و أدوات الزراعة تحتل نصف المكان و في الزاوية الضيقة هناك حصير ترقد عليه قطعة بورا بح بالية ،

سار الصبي نصف نائم إلى هذا الفراش و هاته الزاوية التي سوف يقضي فيها شوطا طويلا من حياته البائسة.

استلقى منهكا على الحصير وجذب الغطاء القصير ليغطي به الجزء العلوي من جسمه

إدريس كان يداري وجهه حين ينام و كأنه لا يريد أن يرى احد وجهه و هو نائم أو ربما كان يبكي بكاءا

مرا تحت هذا الفراش البالي.

تعرف إدريس على كل شبر من هذا العالم المليء برائحة الغربة المؤلمة كان يستيقظ باكرا

يقود غنم مبارك فوق الأرض الجدباء وسط نباتات السدرة و الدوم يتنفس هواءا جافا، يقضي

وقتا طويلا في إصلاح حذاءه العتيق الذي ينسلخ من رجليه كل مئة متر ،لقد وعده مبارك أن يشتري له حذاءا جديدا

لكن وعد الرجل مرت عليه اشهر و رجلاه لم تتحملا لسعات الحجارة المسننة.

في الليل كان يأوي إلى قطعة الحصير ينام كالميت لكن سرعان ما ينتزعه من رقاده وجه أمه

ذو الألف أخدود و رائحة خبز الشعير الذي كانت تحضره على الفرن الطيني المنصوب أمام باب البيت.

كان ينتصب جالسا يمسح العرق المتصبب من رقبته و يمشي إلى الزريبة يجلس وسط الأغنام

و يطلق العنان لخياله محاولا استرجاع الصور القديمة فيخيب خياله و لا يمنحه سوى أصوات و روائح،

و هكذا دأب على اللجوء إلى الزريبة كلما اشتد به الحنين إلى أرض "جرادة" و شمسها الوقحة

و طيبة عمال مناجم الفحم و سعة خواطرهم و صبرهم على مآسيهم.

كان عمره أربع و عشرين سنة عندما بدأت أمور لم يعتدها تجري على هاته الأرض التي

و إن كان غريبا عنها فانه أحبها، لقد كانت ملجأه من الجوع و الخوف و البرد .لقد كان مبارك الأب و السيد

و زوجته الأم و السيدة أما الفتاتين فقد كانتا أحب الناس إلى قلبه بالرغم من أنهما كانتا تعافان

ملابسه و فراشه المليء بالقمل.

كان المطر غزير حينما سمع قرعا قويا غلى الباب الحديدي نهض مبارك يجري و هو يصلح

رزته دخل ثلاث رجال بألبسة نصف عسكرية يحملون بنادق عتيقة .بعد لحظات خرجوا يتقدمهم مبارك

و قد لبس جلابيته الصوفية كان يتلفت يمينا و شمالا كأنه يبحث عن شيء نسيه أو ربما

فقط لتلاحظ جوهر زوجته توتره.

خرج مبارك من هاته الدار و لم يعد في المساء و لا اليوم التالي و مر شهر و لم يعد الرجل

حتى جاء ذالك اليوم الذي دخل فيه إدريس بغنمه فوجد البيت في هرج و النسوة تبكين مرة و تزغردن

مرة أخرى و رائحة الكسكسى المفتول في كل مكان عرف إدريس بطبعه المتشائم أن مبارك استشهد ...

لقد بلعته هاته الأرض مع من بلعت قالوا أنه دفن هناك في جنح الظلام، قالو انه مات بعدما قتل كثيرا من الأعداء،

قالوا أن حمامة بيضاء تقف على قبره لا تفارقه، قالت جوهر انه زارها ليلا بشحمه و لحمه

و أعطاها مفتاحا قال لها هذا مفتاح الجنة، أوصيك خيرا ببناتي قال لها أيضا أن لا تحزن عليه

و انه في الجنة و انه لن يرتاح له بال حتى تتزوج .

إدريس لم يكن يهمه شيء من هذا ، دخل الزريبة كعادته جلس بين الأغنام و بكى

بحرقة كان يبكي في مبارك أمه و أخوته كان يبكي ذلك الوطن ارض "جرادة" و هواءها الممزوج بألحان الناي.

مبارك السيد لم يعد موجودا و إدريس كان عليه مغادرة البيت الذي احتواه بعدما رمي

به على قارعة الطريق, استلقى على حصيره و لف رأسه في عمامته و لم يكد يغفو حتى

أحس بوجود أشخاص داخل المخزن هب جالسا نظر إليه أحدهم و هو يتلمس فوهة بندقيته :

" لقد أصبحت و حدك مع زوجة الشهيد عليك بمغادرة البيت" قال بلغة حازمة،



اطرق إدريس و ضغط على ركبتيه اللتان ارتعشتا من هاته النبرة التي لم يعهدها



و هناك حل أخر أضاف الرجل هو أن تعيش معها على سنة الله و رسوله ،سكت الجميع و معهم

إدريس الذي كان يرتجف من هول ما سمع.

دخل إدريس على جوهر ليلة زفافه كان يقدم رجلا و يؤخر أخرى، كيف يدخل على زوجة سيده؟

، كان يرى في هذا الزواج تمرد طبقي هو الذي ألف سماع الأوامر من زوجة سيده، ها هو اليوم لا يقف أمامها الند بالند فحسب بل يتسيدها و يزرع بذره الحقير في أحشاءها.

دخل الغرفة التي لم يدخلها يوما ، رائحة مبارك و سلطته لم تكن قد غادرت المكان بعد ،

جوهر نظرت إليه نظرات تشجيعية لكنه لم يستسلم لثغرها المدبوغ بالسواك ،فقد عاد أدراجه ،

طرده مبارك بحضوره السافر في كل نسمة هواء كانت تدخل صدره.دخل إلى الزريبة جلس بين الأغنام

و طار بفكره إلى أحضان موطنه يستحضر ما بقي صالحا من ذاكرته، ينفض غبار السنين عن تلك الصور المهترئة

عله يجد فيها شيئا يحفف من توتره.

عاش مع جوهر ندها في الفراش لكن إن جاء النهار نزل إلى مرتبة الخادم ،

كان يرعى الغنم و يخدم الأرض نهارا و في الليل يلبي رغبات جوهر و كانت المرأة تغازله ليلا و لا تتوانى

عن شتمه و إهانته نهارا ، لم يكن إدريس رجلا إلا داخل الفراش أما خارجه فهو خادما لجوهر و لأبنائها حتى أولاده

الثلاثة لم تكن له عليهم أية سلطة، كانوا بكل بساطة أولاد جوهر.

خرج الناس يحتفلون بالاستقلال كانت الشاحنات و الجرارات مليئة بالرجال و النساء و الأطفال يحملون الرايات

يغنون أغاني يشتمون فيها المستعمر و يمدحون الشهداء الإبرار ،فرح إدريس لفرحة من حوله حتى انه

حفظ بعض الأغاني التي كان يرددها إثناء درس محصوله من الحبوب .

مرت سنوات الاستقلال و لم يتغير شيء في حياة إدريس كان يعمل طوال النهار و يعود إلى البيت

منهكا قد يستريح و قد يخرج لمهمة أخرى تكون جوهر قد برمجتها له، غالبا ما كان يعود إلى البيت ويجد

ضيوفا لا يعرفهم يدخل إلى الزريبة يذبح خروفا تختاره جوهر يحضره و يدخل ليسلم على الضيوف و قد تنهره المرأة لأنه لم يغسل رجليه فبل الدخول عليهم .

كلما أحس إدريس بالهوان كلما ألحت في طلبه أدراج صباه كانت السعادة بعيدة وراءه حينما كان

طفلا يحمل كسرة شعير و يجري مع أترابه يبتلع هواء "جرادة" المنعش.

سيارات الدرك أصبحت تقل أناسا تحشرهم في شاحنا ت و تأخذهم إلى وجهة ،

علم الناس إنها الحدود، إنهم مغاربة و يجب عليهم المغادرة أصبحت الدولة هي من يحدد الانتماء ،

إدريس لم يكن ينتمي إلى هاته الأرض التي شربت من عرقه حتى ثملت، هكذا قالت الأوراق

و هكذا قالت السجلات الهرمة، جاءت سيارة الدرك إلا أن جوهر تصدت لهم مرتين مرة حينما أرتهم أوراق

الشهيد و مرة حينما دخلت الزريبة و أخرجت خمسة خرفان طوال سمان ضاقت بهم سيارة اللاندروفر ،ها هو

مبارك ينقذه مرتين و ها هي الزريبة التي لم يكن يستريح إلا داخلها تنقذه هي كذالك، غريب كيف ينقذ الميت

الإحياء و كيف ينقذ الحيوان الإنسان، أما من لم ينقذهم مبارك و لم تنجدهم الزريبة فقد اقتلعوا من هاته

الأرض كما تقتلع النباتات الضارة و يرمى بها خارج الحقل.

إدريس بفكره الصغير أحس انه ليس سوى حشرة طفيلية تتغذى من ظل مبارك و جوهر و من جديد ألحت

في طلبه تلك الصور القديمة و من جديد تراءت له في أحلامه تلك العربة التي يجرها بغلان هرمان و سمع

كركبتها المقلقة.

لم يعد يأوي إلى فراش جوهر و لم تعد جوهر تعيره ادني اهتمام، لماذا لا يذهب إلى موطنه فجأة

خطرت عليه هاته الفكرة هل باستطاعته الوصول إلى تلك القطعة من العالم التي تسكن يقضته و أحلامه؟

هل سيعانق رائحة خبز الشعير الطازج التي تقض مضجعه؟

لم يكن ينقص إدريس سوى جواز سفره لكن كيف يجهزه و أوراقه كلها عند جوهر و هي لن تسمح

له بالمغادرة.

نهض ذات فجر دخل الزريبة جلس بين أغنامه يلامس أعناقها و رؤوسها و يخلصها من الشوك الذي علق

بصوفها ثم خارج قاصدا الحدود، كانت الشمس قد بدأت تلهب التراب الأحمر حينما وصل إلى الضفة الأخرى

ما أنعش هذا النسيم الذي يداعب وجهه و خياله لا بد انه يلامس ارض "جرادة "و أناسها الطيبين قبل أن يصل إليه .

توقفت سيارة عند رجليه و دعاه السائق ليوصله الى اقرب مدينة، ركب فرحا سيصل

بسرعة إلى موطنه بدأت معالم المدينة تظهر مكسرة هذا الفراغ الممل، هاهي المدينة تقترب منه

و تقبل به ضيفا كريما في أحشاءها ، فجأة توقفت السيارة لقد كان الصخب يعلو على كل شيء و رائحة

الدخان في كل مكان و صوت الرصاص و القنابل إنها مظاهرة .

خرج إدريس من السيارة لا يدري إلى أين يتجه، جرى في درب ضيق محاولا تفادي الرصاص إلا نه وجد

نفسه وجها لوجه مع آلة الموت سقط أرضا شيئا ساخنا سال من بطنه و ركبتيه نظر حوله كانت بعض

الجثث قد أخذت مواقعها قبله، بعض تلك الجثث كان يحركها رمق من الحياة جاء رجال مسلحين و بدؤوا يجرون

من سقط و يرمونه في الشاحنة.كانت الشاحنة تسير في ارض خالية و كان الأحياء يئنون و كان صوتهم يتعالى

إذ أسرعت الشاحنة ،و ينخفض إذ قلت سرعتها .

توقفت الشاحنة أمام حفرة كبيرة أعدت لتواري سوءة الاستبداد، جر إدريس مع الآخرين كان يدري

الآن انه لن يصل إلى موطنه، نظر حوله و هو يسحب على الأرض تراب احمر و صخور ليس هناك اثر

للحياة أغمض عينيه حينما اقترب من حافة الحفرة و انتظر الألم الذي سيزلزل كيانه عندما يسقط في القاع ،

سقط في القاع التراب المالح دخل حلقه و عينيه بعد لحظات كان يئن تحت ثقل التراب الذي ينزل بعنف على

ظهره و في وسط صراخ نزلاء الحفرة كانت العربة التي يجرها بغلان هرمان تصم أذانه بكركبتها.
 
إنضم
15 سبتمبر 2011
المشاركات
8,363
مستوى التفاعل
525
النقاط
0
الإقامة
عمان
شكراآآ للطرح

تحتاج إلى قراءة بروية مطلقة ليسهل فهمها

حلم العودهـ شئ جميل وأهم عودة العودة للروح
 
إنضم
15 سبتمبر 2011
المشاركات
8,363
مستوى التفاعل
525
النقاط
0
الإقامة
عمان
شكراآآ للطرح

تحتاج إلى قراءة بروية مطلقة ليسهل فهمها

حلم العودهـ شئ جميل وأهم عودة العودة للروح
 

منوعات

عضو vb
إنضم
24 يونيو 2010
المشاركات
13,521
مستوى التفاعل
431
النقاط
83
الإقامة
في قلب حبيبي
نورتي يا عيوني

مرورك يسعدني يالغلا
 
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,390
مستوى التفاعل
70
النقاط
0
الإقامة
الاردن
يعطيك الف عافية عزيزتي
................
 

أبو همام

عضو vb
إنضم
30 يوليو 2011
المشاركات
13,240
مستوى التفاعل
578
النقاط
113
الإقامة
Tafila Hashemite
يسلمووووو هالديات يالغلا
 

منوعات

عضو vb
إنضم
24 يونيو 2010
المشاركات
13,521
مستوى التفاعل
431
النقاط
83
الإقامة
في قلب حبيبي
اشكركم على المرور العطر

تحياتي لكم :eh_s(21):
 

ذا فيرست مان

كبار الشخصيات
إنضم
25 نوفمبر 2011
المشاركات
2,086
مستوى التفاعل
58
النقاط
0
الإقامة
الاردن
يعطيكي ألف عافية
 

منوعات

عضو vb
إنضم
24 يونيو 2010
المشاركات
13,521
مستوى التفاعل
431
النقاط
83
الإقامة
في قلب حبيبي

نورتي يا عيوني

مرورك يسعدني يالغلا
 

متجاوب 2023

متجاوب 2023

أعلى