الوقف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

متجاوب 2023

Mansor_alsawalqa

طاقم الادارة
إنضم
28 أغسطس 2009
المشاركات
4,824
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
الإقامة
معان الابية
الوقف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم (1)

تطوره ومظاهره وأدلة مشروعيته



لقد تكاثرت الأدلة الشرعية حول مشروعية الوقف، وتنوعت دلالاتها وتعددت مظاهرها، وهكذا اختلفت الروايات في تحديد ظهور أول نشاط للوقف في التاريخ الإسلامي:
فيرى بعضهم بأن أول وقفٍ هو وقفُ رسول صلى الله عليه وسلم لبساتين مخيريق بعد غزوة أحد، فإنه أوصى إن أصيب فأمواله لرسول الله صلى الله عليه و سلم، فلما قتل قبضها النبي صلى الله عليه وسلم وتصدق بثمرها في سبيل الله تعالى، وكانت سبعة حوائط تقع في بني النظير.

وذهب آخرون إلى أن أول وقف كان في آخر السنة السابعة للهجرة لما وقف عمر بن الخطاب أرضا له بخيبر على فقراء المسلمين، وذوي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله..

فقال أبو بكر الخصاف في أحكام الوقف (ص4):
"وقد اختلف علينا في أول صدقة كانت في الإسلام فقال بعضهم: أول أول صدقة كانت في الإسلام صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم السبعة الحوائط ثم من بعد ذلك صدقة عمر بثمغ عند مرجع الرسول صلى الله عليه وسلم السنة السابعة من الهجرة"، ثم استدل كل فريق بأدلة تؤيد مذهبه، وسأحاول بعون الله تعالى في هذا المبحث على قدر طاقتي أن أتبع التسلسل التاريخي لأدلة الوقف، مع عدم إغفال الترابط الانسجام بين الأدلة، مُقسما إياه إلى المحطات التاريخية التالية:
المطلب الأول:
المرحلة الأولى: الوقف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: بدايته وتطوره ومظاهره:
تعتبر هذه المرحلة هي أصل الوقف في التاريخ الإسلامي عامة، وفي بلاد الحرمين خاصة، وقد تكاثرت فيها الأدلة الشرعية والعينات الوقفية، وتنوعت مظاهرها ودلالاتها تنوعا كبيرا كما سيتبين في هذه الأدلة التالية:
الدليل الأول: وفيه الحث على التصدق بكلِّ ما تبقى عيْنه حتى يستمر للمرءَ أجرُه: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 122]، وهذه الآية مكية عند العلماء، وفيها إشارة للحث على الوقف وترك الآثار الحسنة للمرء حتى يجد ثوابها عند الله تعالى، والشاهد في قوله تعالى ﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾، فإنها شاملة للخطى وآثار الأرجل، كما أنها مشتملة على كل ما يُخلِّفه الأموات من آثارٍ لأعمالهم، كما قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان عند تفسيره للآية (6/291): "واعلم أن قوله: وآثارهم، فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، الأول منهما: أن معنى ما قدموا: ما باشروا فعله في حياتهم، وأن معنى آثارهم هو ما سنوه في الإسلام من سنة حسنة أو سيئة، فهو من آثارهم التي يعمل بها بعدهم.

الثاني: أن معنى آثارهم: خطاهم إلى المساجد ونحوها من فعل الخير، وكذلك خطاهم إلى الشر".

ويشهد لهذا المعنى: ما خرجه مسلم في صحيحه (1017) عن جرير رضي الله عنه قال:... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء "، كما يشهد له الحديثان التاليان:
الدليل الثاني: خرجه مسلم أيضا (1631) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، وقد ذكر العلماء أن الصدقة الجارية هنا: هي الوقف، لجريان العمل بها مع جريان أجرها بسبب بقاء عينها.

دليل أو الدليل الثالث: خرجه ابن خزيمة في صحيحه (2490) من طريق مرزوق بن الهذيل - وفيه لين - نا الزهري ثني أبو عبد الله الأغر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا كراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته"، وهذه الأمور المذكورات يُسْتفاد منها أنّ الوقف يكون في كل ما تبقى عينه، كبناء البيوت والفنادق والمساجد، أو شق الأنهار وحفر الآبار، وكتب العلم وسائر الصدقات الجارية، وكلها تندرج ضمن الثلاثة المذكورة في حديث مسلم السابق.

وإنما قدمت هذين الحديثيْن لانسجامهما مع الآية السابقة كما ذكرت في الشرط المذكور.

الدليل الرابع: وفيه الوقف في بناء المساجد، والاشتراك في الوقف: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة قدم قباء أولا ومكث فيه أربع عشرة ليلة كما في صحيح مسلم ثم ذهب إلى المدينة وأسس المسجد النبوي، كما قال جمال الدين محمد بن أحمد المطري في التعريف بما أنست الهجرة (129):" ذكر المساجد المعروفة بالمدينة: منها مسجد قباء في بني عمرو بن عوف، وكان مربدا لكلثوم بن الهدم، فأعطاه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي المدينة.."، ثم أسس المسجد النبوي:
4. فقال الإمام البخاري في صحيحه " باب إذا أوقف جماعة أرضا مشاعا فهو جائز "، ثم خرج (2771) عن أنس رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد، فقال: "يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا "، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله "، ثم ذكره ضمن:" باب وقف الأرض للمسجد"، وفي" باب إذا قال الواقف: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله فهو جائز "، وهذا يدل على أنّ بناء المساجد كان أول وقف عملي استغلالي في الإسلام بعد الهجرة مباشرة والله أعلم، ثم توالى بعد ذلك الأمر ببناء المساجد، وقفا لله تعالى، كما خرج الترمذي في سننه (594) وابن خزيمة (1294) وابن حبان (1634) في صحيحيهما عن عائشة قالت:" أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب"،

ولما كثر الناس وُسّع المسجد النبوي التوسعة الأولى: كما هو مشهور من حديث عثمان يوم الدار والحصار أنه قال للناس:" وأنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وضاق المسجد على أهله فقال: من يشتري بقعة آل فلان فيوسع بها في المسجد بخير له منها في الجنة فاشتريتها من خالص مالي، قالوا: اللهم نعم "، ثم بعد المساجدِ ظهرَ الوقف في الآبار للحاجة إليها كما في:
الدليل الخامس: وفيه الوقف في الموارد المائية والعقار، واشتراط استفادة الواقف من وقفه: ويَدخل في ذلك شق الأنهار وحفر البرك والآبار ونحو ذلك، فقد كان ذلك أمرا منتشرا بالمدينة كما ذكر ابن شبة والمطري وابن الضياء وغيرهم، وأول ذلك وقف بئر رومة والله أعلم:
قال البخاري في صحيحه:
"باب إذا وقف أرضا أو بئرا، واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين "، ثم خرج (2778) عن أبي عبد الرحمن: أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم - يوم الدار - وقال: أنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حفر رومة فله الجنة"؟ فحفرتها،.. قال: فصدقوه بما قال".

ومن الدليل على أنها كانت أول بئر ما خرجه الترمذي في سننه (3703) والضياء في المختارة (322) واللفظ له عن ثمامة بن حزن القشيري قال:
"شهدت الدار يوم أصيب عثمان رضي الله عنه فأشرف علينا من فوق الدار فقال: أيها الناس هلموا إلي صاحبيكم اللذين أنشباكم علي، قال: واجتمع الناس، فجيء بهما يساقان كأنهما جملان أو كأنهما حماران، فقال: أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها بئر يستعذب إلا رومة، فقال: من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة، قالوا: اللهم نعم، فاشتريتها من مالي، فَلِمَ يمنعوني أن أُفطر عليها حتى أُفطر على ماء البحر .."، وهي بئر كانت ليهودي، ربما من بني غفار والله أعلم:
قال ابن الضياء في تاريخ مكة والمسجد الحرام (245..):
"قال الإِمَام أَبُو الْفَتْح الْعجلِيّ: لما قدم الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَة الشَّرِيفَة استنكروا المَاء لملوحته، وَكَانَ لرجل من بني غفار عين، يُقَال لَهَا بِئْر رومة يَبِيع مِنْهَا الْقرْبَة بِمد من الطَّعَام، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "بعنيها بِعَين فِي الْجنَّة"، فَقَالَ لَيْسَ لي غَيرهَا. فَبلغ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فاشتراها بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم ثمَّ أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله أَتجْعَلُ لي مثل الَّذِي جعلت لَهُ؟ فَقَالَ: نعم. قَالَ الشَّيْخ: وَهَذِه الْبِئْر فِي العقيق الْأَصْغَر وَفِي العقيق الْأَكْبَر بِئْر عُرْوَة كَمَا قدمنَا"، قال المطري في الهجرة (159): "قال ابن النجار: ذرعتها فكان طولها فكان طولها ثمانية عشر ذراعا منها ذراعان ماء... وعرضها ثمانية أذرع"، ثم استمر الوقف في الآبار كما سيأتي.

الدليل السادس: وفيه أن ثالث وقف عملي في الإسلام هو وقف الحوائط السبعة من مال المخيريق بعد عزوة أحد، وهو أول وقف استثماري: ومخيريق هذا كان من يهود بني قينقاع، مُقيما في بني النضير له بها عقارات سبعة تصدق بها على النبي صلى الله عليه وسلم ليفعل بها ما شاء، فوقفها في سبيل الله تعالى، وكان عليه السلام يأخذ جزءا منها لنفسه وأهله، ويجعل الباقي في سبيل الله تعالى، ويقال بأن صدقته هذه هي أول وقف عملي في الإسلام، ويُشكل عليه بأن وقف المسجد والآبار أسبق منه كما ذكرنا، ويمكن الجمع بأن يُحمل الأوّل على أنه أول وقف استغلالي، وأما بساتين مخيريق فهي أول وقف استثماري تجاري:
6. فخرج ابن سعد في الطبقات (1/501) والخصاف في أحكام الأوقاف (ص44) عن الواقدي عن صالح بن جعفر عن المسور بن رفاعة عن ابن كعب قال:" أول صدقة كانت في الإسلام وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله "، وفي لفظ ابن سعد عن محمد بن كعب قال: أول صدقة في الإسلام وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، لما قتل مخيريق بأحد، وأوصي إن أصبت فأموالي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدق بها "، في إسناده صالح بن جعفر الله أعلم بحاله، وأما المسور فوثقه ابن حبان وقد روى عنه الإمام مالك وكان لا يروي إلا عن الثقات، وأما الواقدي ففيه اختلاف كبير وكلام كثير، قد جمعته في مبحث مستقل، وذكرت فيه الأحاديث التي انتقدوه من أجلها، وذكرت من تابعه فيها ومن وثقه ودافع عنه، وخلاصة القول فيه أنه ثقة حجة في أحاديث المغازي والتاريخ والسير والأماكن، وهو صدوق في غيرها ما لم يخالف، وللحديث متابعات وشواهدة كثيرة تدل على حُسْنه:
فخرجه الخصاف وابن سعد أيضا وابن شبة من حديث محمد بن إبراهيم بن الحارث ثني عبد الله بن كعب بن مالك قال: قال مخيريق يوم أحد: إن أصبت فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله، وهي عامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم"،، وله طرق عدة خرجها الخصاف وابن سعد وغيرهما، ويكفي في بيان صحته إخبار الثقات من أهل العلم بأن هذه البساتين السبعة لا تزال موجودة في المدينة، يستفيد الناس من ثمرها إلى زمن التابعين وأتباعهم زمن عمر بن عبد العزيز، بل إلى أزمنة عديدة كما سيأتي:
وفيه من الفقهِ مشروعية الوصية بالوقف في الحوائط والمزارع ونحوها: دليل ذلك ما قاله أبو بكر أحمد بن عمرو الخصاف في أحكام الأوقاف (ص1) نا الواقدي نا صالح بن جعفر عن المسور بن مخرمة قال:" قتل مخيريق على رأس اثنتين وثلاتين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى إن أصيب، فأمواله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصدق بها "، وهذا حديث مرسل وله شواهد أخرى أيضا كما ذكرنا:
وخرجه الخصاف عن عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن إبراهيم عن عبد الله بن كعب نحوه.

وخرجه الخصاف، وابن سعد (1/503) عن الواقدي حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن الميسور بن رفاعة عن محمد بن كعب القرظي قال: كانت الحبس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس سبعة حوائط بالمدينة: الأعواف، والصافية والدلال، والميثب، وبرقة، وحسنى، ومشربة أم إبراهيم. قال ابن كعب: وقد حبس المسلمون بعده على أولادهم وأولاد أولادهم"، محمد بن كعب من كبار التابعين، وأئمة الفقه في الدين، وقد استمر ريع هذه الأوقاف إلى زمن الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز:
دليل ذلك ما خرجه الخصاف وابن سعد من طريق محمد بن بشر عن أبيه قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته بخناصرة: سمعت بالمدينة والناس يومئذ بها كثير من مشيخة المهاجرين والأنصار أن حوائط النبي صلى الله عليه وسلم، يعني السبعة التي وقف من أموال مخيريق، وقال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله، وقتل يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود. ثم دعا لنا عمر بتمر منها، فأتي بتمر في طبق فقال: كتب إلي أبو بكر بن حزم يخبرني أن هذا التمر من العذق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم"، وسيأتي عن الزهري وصفه لهذه الأراضي ومعاينته لها.

ثم نقل الخصاف بأن القولَ بكوْن هذه البساتين السبعة هي أول الأوقاف في الإسلام هو قول مرويٌّ عن الأنصار، وأما المهاجرون فأول الأوقاف عندهم هي صدقة عمر بعد خيبر كما في:
دليل سابع: وفيه أن أول وقفٍ هو حبسُ عمر رضي الله عنه لحوائطه: وهذا قول اختاره ابن خزيمة في صحيحه فإنه قال (4/117): "باب ذكر أول صدقة محبسة تُصُدِّق بها في الإسلام ... قال: وروى عبدالله بن عمر العمري أن نافعا حدثهم قال: سمعت ابن عمر يقول: أول صدقة تصدق بها في الإسلام صدقة عمر بن الخطاب، وأن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي مالا وأنا أريد أن أتصدق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احبس أصله وسبل تمره" قال: فكتب"، ثم قال ابن خزيمة حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب حدثني عبدالله بن عمر به"، وقد تابعه حماد ويحيى الطائفي وغيرهم عن عبد الله العمري به، خرجه عن الأول أحمد (2/156)، وخرجه عن الطائفيِّ الطبرانيُّ في الأوائل (ر59) باب أول حبس كان في الإسلام "، وقد تفرد به عبد الله العمري وهو لين، وقد روى الثقاتُ هذا الحديثَ لم يذكر أحد منهم أن هذا هو أول الأوقاف كما ذكر العمري، بل الأصح أن أول وقف في الأراضي هو وقف النبي عليه السلام لأموال مخيريق - النضيري - في سبيل الله كما مرّ، وسنذكر الآن وقف أموال بني النظير وغيرهم:
الدليل الثامن والتاسع: وفيه وقف الفيء من عقار وبساتين، وبيان مصرف ذلك وكيفية استثماره: حيث كان للنبي عليه الصلاة والسلام فيءُ أموالِ بني النضير ثم أموال خيبر وفدك، فحبسها في سبيل الله تعالى، ووَلي العملَ بها اليهودُ على أن تكون الغلة مناصفة بينهم وبين المسلمين، ثم يقتسم المسلمون شطرهم: يأخذ النبي عليه السلام جزءا منه - أراه الخمس -، ويكون الباقي في سبيل الله تعالى بين المسلمين.

وهذا التقسيم أشبه بقسمة الغنيمة كما قال الله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ [الأنفال 411]، إلا أن الأكثرين فرقوا بين الغنيمة والفيء، فالغنيمة هي الشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي والإيجاف والحرب، وتكون الأربعة أخماس فيها للغانمين، قيل إجماعا على ما ذكره ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي، نقله عنهم القرطبي في تفسيره (8/3) ولم يصح هذا الإجماع.

وأما الفيء فيكون من غير حرب ولا إيجاف، وهو للإمام خاصة يفعل به ما شاء، كما في أموال اليهود هذه والتي قال الله تعالى عنها: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ [الحشر6.77].

وقيل: إنهما واحد، لعموم قوله تعالى: ﴿ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [لأنفال:11] وفيهما الخمس، والأربعة الأخماس للحاكم، إن شاء قسمها بين الغانمين، وإن شاء حبسها والله أعلم.

وأما أموال اليهود تلك فكانت من الفيء للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير وغيره، ويحبس الباقي في سبيل الله تعالى كما في:
الدليل الثامن: وفيه اشتراط الواقف نصيبا له من غلة وقفه: خرج ذلك أبو داود بإسناد صحيح (29677) عن ابن شهاب الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: فيما احتج به عمر رضي الله عنه أنه قال: "كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا، بنو النضير، وخيبر، وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، جزأين بين المسلمين، وجزءا نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين".

وكذلك ورد اشتراط استفادة الواقف من وقفه: فيما خرجه الخصاف في أحكام الوقف (ص3) عن الواقدي ثني ابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه ني حجر المدري أن صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها أهله بالمعروف غير المنكر"، تابعه أبو بكر بن أبي شيبة (4/350) عن ابن عيينة به، وقد كان النبي عليه السلام يأخذ جزءا من هذه الغلات في حياته، ويجعل الباقي في سبيل الله تعالى:
الدليل التاسع: وفيه وقف غلة الفيء لشراء السلاح والعتاد، وكذا الوقف في وسائل الركوب:
خرج ذلك مسلم (1757) عن عمر بن الخطاب قال:" "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح، عدة في سبيل الله "، الكراع هي الخيل والفرس، ويقاس عليها وسائل الركوب وآلات الحرب المتطورة، لأنها بدل عنها، والبدل له حكم المبدل منه كما ذكر الأصوليون، وللوقف في السلاح شواهد أخرى ستأتي في بابها:
الدليل العاشر: وفيه طريقة استثمار البساتين بالمزارعة، وكيفية صرف غلة ذلك: حيث وقف النبي عليه السلام أرض خيبر كما تقدم واستثمرها بأن ولى العمل بها لليهود، ثم جعل غلتها من ثمار وزروع مشاطرة بينهم وبين المسلمين كما في صحيح مسلم (1551) عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع"، ثم قسم شطر المسلمين بينه وبينهم كما مر من حديث عمر:" وأما خيبر فجزأها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، جزأين بين المسلمين، وجزءا نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين ".

وخرج ابن شبة في تاريخه (1/178) عن عبد الله بن عمر: "لما افتتحت خيبر، سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرها في أيديهم على أن يعملوا على النصف مما خرج منها، التمر والزرع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقركم على ذلك ما شئنا" فكانوا فيها كذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، وطائفة من إمارة عمر رضي الله عنه، وكان التمر يقسم على السهمان من نصف خيبر، ويأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أطعم كل امرأة من أزواجه من الخمس: مائة وسق تمرا، وعشرين وسقا شعيرا".

ثم إن عمر رضي الله عنه قرر أن يبيع الغلة ثم يعطي المسلمين مالا بدلا عن الثمار وكل ذلك حسن، للناظر في الوقف أن يفعل أيهما أحسن وأيسر:
فخرج ابن شبة (1/182) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " أعطانا النبي صلى الله عليه وسلم نصيبنا من خيبر، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، غير أن الناس كثروا على عمر رضي الله عنه، فأرسل إلينا فجمعنا فقال: إن الناس قد كثروا، فإن شئتم أعطيتكم مكان نصيبكم من خيبر مالا. فنظر بعضنا إلى بعض، فقتل عمر رضي الله عنه ولم يعطنا شيئا، فقبضها عثمان رضي الله عنه، وذكرنا له ذلك فقال: إن عمر رضي الله عنه قبضها ولم يعطكم فأبى أن يعطينا".

الدليل الحادي عشر: وفيه وقف الفيء واستثماره وجعل غلته وآباره وما فيه في سبيل الله تعالى: ذلك أن يهودَ فدك بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر: أن أعطنا الأمان منك، وهي لك"، ثم وقفها عليه السلام في ابن السبيل كما مرّ من حديث عمر: "وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل"، وقد استثمرها النبيّ عليه السلام أيضا بأن ولي العمل بها لليهود، ثم جعل غلتها من ثمار وزروع مشاطرة بينهم وبين المسلمين:
فخرج ابن زنجويه في الأموال (ص 94 ر62) بإسناد صحيح من مرسل يحيى بن سعيد قال:" كان أهل فدك قد أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على أن لهم رقابهم ونصف أرضيهم ونخلهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر أرضيهم ونخلهم، فلما أجلاهم عمر بن الخطاب، بعث من أقام لهم حظهم من الأرض والنخل، فأداه إليهم "، ثم خرجه من مرسل الزهري، وله شواهد أخرى كثيرة:
فخرجه ابن شبة (1/193) عن ابن إسحاق عن الزهري وعبدالله بن أبي بكر عن بعض ولد محمد بن أبي سلمة قال: "بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويسيرهم، ففعل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خالصة؛ لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب "، وخرجه (1/194) عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل فدك على النصف له والنصف لهم، فلم يزالوا على ذلك حتى أخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأجلاهم".

وقد بلغ من ريع هذه الأوقاف أن أغنت المسلمين وكفتهم: بدليل ما خرجه ابن شبة في تاريخ المدينة (1/186) عن ابن إسحاق قال: بلغني ممن أثق به أن المقاسم كانت على أموال خيبر على الشق والنطاة في أموال المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين، وطعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وطعم رجال مشوا بين أهل فدك بالصلح، منهم محيصة بن مسعود، أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم منها ثلاثين وسقا شعيرا وثلاثين وسقا تمرا، فكانت الكتيبة مما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم، فصارت في صدقاته " قال أبو غسان: وقد سمعت من يقول: كانت بئر غاضر والنورس من طعمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهما من أموال بني قريظة بعالية المدينة. وقد قيل في ذلك: إن بئر غاضر مما دخلت في صدقة عثمان رضي الله عنه في بئر أريس "، وقد مضى أن النبي عليه السلام وقف أرض اليهود بمياهها وآبارها على المسلمين.

وخرج ابن شبة عن ابن عباس رضي الله عنه قال:" قسمت خيبر على ألف سهم وخمسمائة وثمانين سهما، الذين شهدوا الحديبية ألف وخمسمائة وأربعون رجلا، والذين كانوا مع جعفر بأرض الحبشة أربعون رجلا، وكان معهم يومئذ مائتا فرس أو نحوها، فأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما".

ثم لما أجلى عمر رضي الله عنه اليهودَ أرسلَ إلى تلك الأرض من يقوم بها وهو ما يُسمى بـ " ناظر الوقف"، فقال ابن شبة (1/194):" وقال غير مالك: لما استخلف عمر رضي الله عنه أجلى يهود خيبر، فبعث إليهم من يقوم الأموال، فبعث أبا الهيثم بن التيهان ".

وخرج (1/188) عن بشير بن يسار قال: "لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم خيبر، قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، وعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقي بين المسلمين، فما قسم بين المسلمين الشق ونطاة وما حيز معهما، وكان فيما وقف الوطيح والكتيبة وسلالم وما حيز معهن، فلما صارت الأموال بيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، لم يكن لهم من العمال ما يكفون عمل الأرض، فدفعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود، ويعملونها على نصف ما خرج منها، فلم يزل كذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه، حتى كان عمر رضي الله عنه، وكثر العمال في أيدي المسلمين وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر رضي الله عنه اليهود إلى الشام، وقسم المال بين المسلمين إلى اليوم".

الدليل الثاني عشر: وفيه أن هذه العقارات، وسائر صدقاته عليه السلام أوقافٌ لا أملاك فتورث، دليل ذلك ما خرجه مسلم في الصحيح (17599) عن عائشة رضي الله عنها: "أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها، مما ترك النبي صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، قال: وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركا شيئا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل به، إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالمدينة، فدفعها عمر إلى علي وعباس، فغلبه عليها علي، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر، وقال: هما صدقة النبي صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه، ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم ".

تلكم هي خلاصة أوقاف فيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف استثمرها وأين صرفها وما عمل فيها، وما آلت إليه، وبالله التوفيق، وأما أوقاف غيره في عهده فهي كالتالي:
الدليل الثالث عشر: وفيه تعريف الوقف، وصور تسبيلِ منفعته، وما يصح أن يُشترط فيه: وقد كان هذا الوقف بعد غزوة خيبر في أواخر السنة السابعة وبداية الثامنة، وربما يكون أول حديث فيه التفصيل في الوقف، فقد ترجمه البخاري في صحيحه فقال: "باب الوقف كيف يكتب؟ "، ثم خرج (2772) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر بخيبر أرضا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها"، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه"، ثم ذكره تحت:" باب الوقف للغني والفقير والضيف"، وخرجه ضمن باب الشروط في الوقف (2737) بلفظ: "لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول قال: فحدثت به ابن سيرين، فقال: غير متأثل مالا"، وخرجه ابن ماجه (2397) وابن خزيمة في صحيحه (2486) بلفظ: "احبس أصلها، وسبل ثمرتها"، وقد مضى أن التمول: هو من يتخذ المال أكثر من حاجته وقيل ليتجر فيه، والتأثل: اتخاذ أصل المال وجمعه حتى كأنه قديم عند صاحبه، فكأنّ عمر رضي الله عنه وقف أرضه هذه ليأكل منها هؤلاء فقط من غير اتخاذ مال وهذا هو الوقف الاستغلالي والله اعلم.






 

همسآت شرقية

طاقم الادارة
إنضم
1 فبراير 2013
المشاركات
17,361
مستوى التفاعل
264
النقاط
63
الإقامة
المفرق


اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين


رزقت خيرا وعافية

 

متجاوب 2023

متجاوب 2023

أعلى